هل يخرج لبنان من نفق الانهيار المالي؟

لم يشهد لبنان في تاريخه، أزمة نقدية ومالية كالتي تحدث اليوم، حتى في أقسى الظروف التي مر بها في حروبه الداخلية. تسارعت حدة الأزمة قبل نحو شهرين وجرفت معها قطاعات عدة، ما استدعى من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التدخل لضبط الحركة النقدية واتخاذ اجراءات لمنع أي انهيار مفاجئ، خصوصاً بعد استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، واستدعت أيضاً من المصارف فرض قيود على حركة الأموال. إلا أن الامور تأزمت ايضاً مع استمرار الفراغ في السلطة التنفيذية، فتفجّرت أزمة الاستيراد، على رغم أن الحلول حُصرت بتأمين الدولار لاستيراد القمح والمحروقات والأدوية فقط، وهي لم تنفذ بالشكل الكافي. وقد ولدت سوق موازية لسعر الدولار، عند الصرّافين، ما يعني أن سعر الصرف الرسمي لم يعد متداولاً في الأسواق، بل سعر الصرف الموازي الخاضع لعملية العرض والطلب. فهل ما يحصل في لبنان مؤشر لانهيار محتمل لليرة وارتفاع سعر الدولار الذي تخطى الالفي ليرة لبنانية في السوق السوداء، ورفع معه نسبة تضخم الأسعار، وخفّض بطبيعة الحال القدرة الشرائية للبنانيين بواقع نحو 40 في المئة.

ارتفاع الدولار والأسعار

ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية بمستويات قياسية، على رغم أن مصرف لبنان لا يزال يمسك بالوضع ويسعّر رسمياً بـ1510 ليرة للدولار الواحد، لكن الوضع غير المستقر أدى الى تفلت أسعار السوق الإستهلاكية لارتباطها بالدولار، فعمد العديد من المؤسسات حينها إلى الاشتراط على المستهلك الدفع بالدولار، ثم عادت المؤسسات إلى إعادة تسعير منتجاتها بالليرة، لكن وفق سعر الصرف المعمول به في السوق الموازية، التي تحولت إلى سوق سوداء. وبذلك ارتفعت أسعار الاستهلاك بنسب تتفاوت بين 20 و40 في المئة. وقد وقعت المؤسسات كلها في شَرَك أزمة شح الدولار، فالقيود التي فرضتها المصارف أدت إلى ارتفاع تكلفة استيراد المواد الأولية، وبات على الجميع تأمين الدولار من الصرافين بأسعار تتخطى 2000 ليرة في بعض الأحيان، لتؤمن استيراد مواد أولية.

ومع تراجع قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع سعر الدولار، في ظل الأزمة التي يعانيها لبنان، واستمرار الحراك الشعبي، والخلافات بين أهل الحكم، لم تستطع المصارف اللبنانية تحييد نفسها عن المشكلات، إذ تهافت الناس على سحب الودائع، وأدى ذلك الى إغلاق المصارف أبوابها لمدة أسبوعين بسبب الأوضاع ولاستكشاف الآلية الجديدة التي ستعمل بها بإشراف مصرف لبنان، وذلك على رغم حدوث تحويلات مالية بالدولار الاميركي أدى الى مزيد من التعثر في القطاع. ثم عادت المصارف وفتحت أبوابها، لكنها استأنفت العمل ضمن ضوابط صارمة على حركة السحوبات والتحويلات الى الخارج، بهدف الحفاظ على القطاع المصرفي.

الواقع أن الأزمة المالية والنقدية سببها التأزم السياسي في البلد، وكذلك عدم قدرة الحكومات على ضبط العجز واستمرار الفساد، وهو ما استدعى تحركاً على أكثر من جهة للتخفيف من حالة الهلع التي يعيشها اللبنانيون وخوفهم من خسارة ودائعهم اذا استمرت الأمور على حالها. وقد فرضت المصارف اجراءات على المودعين من دون الإعلان عنها رسمياً، خصوصاً ما يعرف بالـcapital control وبمنع التحويلات المصرفية إلى خارج لبنان، وكذلك تقييد حركة السحوبات بالدولار، بهدف ضبط الكتلة النقدية وحمايتها من الاستنزاف، طالما أن الاجراءات تحافظ عليها داخل حدود القطاع المصرفي، بمعزل عن الجهة المصرفية التي تودعها في حساباتها. لكن يمكن نقل الأموال (مهما بلغت قيمتها) من حساب إلى حساب ومن مصرف إلى مصرف بالعملة اللبنانية أو بالدولار الأميركي، شرط أن تبقى عملية نقل هذه الأموال (بموجب شيك مصرفي يودع في الحساب ولا يُصرف نقداً مهما كانت قيمته) ضمن القطاع المصرفي اللبناني وعن طريقه.

اجراءات المصارف وموقف الحاكم

سعت المصارف لانتزاع إقرار من حاكم مصرف لبنان رياض سلامه يحميها تجاه الزبائن في لبنان والخارج ويعلن رسمياً تطبيق ما يسمى الـ”كابيتال كونترول” في شكل رسمي، خلافاً لرؤية سلامة الذي يرى أن هكذا إقرار يحتاج إلى تشريع من مجلس النواب، أو أن تتحمل مسؤوليته السلطة السياسية، علماً أن هذه الخطوة ليس منصوصاً عنها صراحة في قانون النقد والتسليف ما يستوجب استصدار تشريع لها. لكن بمعزل عن الالتزام المعلن بقواعد عمل السوق وحرية القطع والتحويل والحرص على حقوق المودعين، اعتمدت غالبية المصارف التدابير الخاصة بها في إدارة عمليات التحويل إلى الخارج، بحيث تم حصرها ضمن أضيق الحدود بالنسبة لحاجات الأفراد، بينما وضعت قيود مشددة للغاية على عمليات التحويل العادية رغم التأكيد المستمر بالحرص على حقوق العملاء.

وكانت التوجيهات العامة الموقتة لجمعية المصارف التي قالت انها تمت بالتشاور مع مصرف لبنان تنص على أن لا قيود على الأموال الجديدة المحولة من الخارج، وأن التحويلات إلى الخارج تكون فقط لتغطية النفقات الشخصية الملحة، ولا قيود كذلك على تداول الشيكات والتحاويل واستعمال بطاقات الأئتمان داخل لبنان، إضافة إلى تحديد المبالغ النقدية الممكن سحبها، لأصحاب الحسابات الجارية بالدولار.

الأزمة والتحويلات

الأزمة المالية الحادة لم يشهد لبنان مثيلاً لها خلال كل تاريخه، فالتطورات أدت إلى تهافت المودعين إلى المصارف ما استدعى وضع قيود على السحوبات والتحويلات، أو ما يعرف بالـCapital Control . لكن هذه الإجراءات أدت في الوقت ذاته الى مشكلات وزيادة المخاطر، اذ أن التحويلات أيضاً من الخارج الى لبنان توقفت أو تراجعت الى حدود خطيرة، إذ أنّ لبنان يعيش على التمويل من الخارج وهذه السياسة تقضي على قدرة لبنان على جذب التحويلات المالية. فهل يتم اللجوء إلى ما يعرف بالـ Haircut. والمعنى من ذلك ان تتخلف الدولة اللبنانية عن دفع ديونها في شكل جزئي أي عندما تشطب جزءاً من دينها”. فالمصارف اللبنانية تدين الدولة اللبنانية مباشرة عبر شراء سندات الخزينة أم عن طريق وضعها للاموال في مصرف لبنان والأخير يقوم بإقراضها إلى الدولة. وهذا يعني ان الدولة اذا قامت بال haircut ستخسر المصارف اللبنانية اصولها. وبما ان هذه القروض تمول بمعظمها من الودائع، فان الـ haircut على حاملي الدين العام قد تترجمه المصارف بـ haircut على اموال المودعين. وهنا تكمن الازمة الاخطر في لبنان.

الاستحقاقات اللبنانية واجراءات المركزي

يُقال أن الحكومة وعلى رغم الأزمة احتاطت لسداد 1.5 مليار دولار أميركي استحقت في أواخر تشرين الثاني 2019 وذلك من خلال مصرف لبنان. وهي سترتاح حتى الاستحقاق الأول المقبل في آذار 2021 بواقع 1.2 مليار. لكن اللبنانيين لا قدرة لهم على السداد بالدولار الأميركي طالما رواتبهم بالليرة التي خسرت حتى الآن نحو 35 في المئة من قوتها التحويلية ونحو 25 في المئة من قوتها الشرائية نتيجة ارتفاع الأسعار. في حين أن هناك ديوناً للقطاع الخاص للمصارف، وديوناً للشركات، فيما يواجه لبنان بسبب الأزمة تراجعًا كبيرًا في معدل النمو 2019 قد يصل إلى 0 في المئة، في وقت تتدنى فيه نسبة تحصيل الدولة للرسوم مع تراجع الأسواق، وهذا دليل على حجم المخاطر التي قد تأخذ البلد إلى الانهيار.

في مواجهة الازمة أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامه في رده على الأزمة وكيفية مواجهتها “اننا امام مرحلة جديدة سنحافظ فيها على سعر صرف الليرة والمصارف تتعامل بالسعر الذي اعلنه مصرف لبنان، وامكاناتنا متوفرة لذلك، والهدف الاساسي الثاني حماية المودعين والودائع وهذا موضوع اساسي ونهائي واخذنا اجراءات حتى لا يكون هناك خسائر يتحملها المودعون. فلا اقتطاع من الودائع ابدا، والالية التي وضعناها هي لحماية المودع من خلال عدم تعثر اي مصرف. وقد اعلمنا المصارف بانها تستطيع الاستلاف من مصرف لبنان بالدولار ولكن هذه الاموال غير قابلة للتحويل الى الخارج انها للاستعمال في لبنان فقط”. وأوضح أن “هناك 30 مليار دولار لدى المركزي جاهزة للاستخدام من الاحتياطات”.

النقطة التي أشار إليها سلامه، وهي أننا مررنا بتحدّيات مالية واستطعنا عبورها، مشيراً إلى أنّنا “عشنا فراغات كبيرة في الحكومات، ومشكلات داخلية، فشهدنا تراجعاً في السيولة وارتفعت الفوائد بمعدّل 3 في المئة.

المحافظة على الليرة

وقال سلامه إن “هدف مصرف لبنان هو المحافظة على الثقة بالليرة اللبنانية وهذا أمر أساسي، والليرة أداة لتأمين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، ونسب التضخم ترتفع والقدرة الشرائية تتراجع في حال تراجعت الليرة، ونجاح المحافظة على استقرار الليرة اللبنانية”، مشيراً إلى أنّ “التراجع في الحركة الاقتصادية والنمو هو صفر ودون في 2019، وهذا التراجع رفع البطالة وأثّر على فئات عدّة من الشعب اللبناني والتعثّر على صعيد تسديد القروض السكنية”.

وأشار إلى أنّ “الودائع التي أخذناها بالدولار من المصارف دفعنا عليها بين 6.15 و6.89 فوائد”. ولفت إلى أنّ “الوضع اليوم استثنائي، فلبنان اقتصاده حرّ، وله حرّية التداول بجميع السلع، ومنها النقد”، مؤكداً “إنّنا اليوم أمام مرحلة جديدة، وسنحافظ على الاستقرار بسعر صرف الليرة، والفارق الموجود هو نتيجة عرض وطلب”. أضاف، أن “هدف مصرف لبنان الأساسي أيضاً هو حماية المودعين، واتّخذنا الإجراءات لئلا يتحمّلوا الخسائر، ولا “HairCut”، فلا صلاحية قانونية لذلك”، مشيراً إلى أننا “طلبنا من المصارف إعادة درس التسهيلات التي خفّضتها من 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وإعادتها إلى وضعها، وطلبنا أيضاً الإبقاء على سقوف بطاقات الائتمان”.

وحسم بأن “مسألة الـ”Capital Control” غير موجودة، ولبنان اليوم يعيش مرحلة تاريخية، ونأمل الوصول إلى مستقبل أفضل. وأكد أن الاقتصاد اللبناني مدولر، أيّ أنّ الثقة بالليرة اللبنانية تساهم باستمرار تدفق الدولارات الى لبنان، والهندسات المالية تساعد أيضاً، ولكن تم فهمها في بعض الأيام بشكلٍ خاطئ”، لافتاً إلى أنّ “الهندسة المالية عام 2016 سمحت بتكوين احتياطات كبيرة دعمت الليرة ورفعت رسملة المصارف، ورفعت الملاءة في ظل تخفيض التصنيف الائتماني وتمويل الدولة”. وقال إنّ “هذه الهندسات تساعد في تأمين دولارات بأسعار فوائد مقبولة، ولا استعمال للمال العام فيها، فيما تبلغ الضرائب على الهندسات 800 مليون دولار”، مشيراً إلى أنّ “المطالب بمراجعة أموال الهندسات يعني خصم الفوائد على الأوراق المالية”.

وأعلن ان “الإحتياطي في مصرف لبنان يقارب الـ38 مليار دولار، بما فيه اليوروبوند واستثمارات البنك المركزي، والقدرة النقدية لدى المصرف في الوقت الحاضر، والتي نستطيع استعمالها فورا هي في حدود الـ30 مليار دولار”.

غياب الحكومة والمسؤوليات

بدا أن لبنان يعيش اليوم حالة فوضى، فإذا كان ما وصل اليه البلد وقيام حركة شعبية تطالب باستعادة الاموال المنهوبة ومكافحة الفساد، فإن من يتحمل المسؤولية عما وصلنا اليه من شبه انهيار واندلاع الأزمة النقدية القائمة ليس سياسات مصرف لبنان وهندساته المالية، انما غياب السلطة عن وضع سياسات مالية واقتصادية تساهم في خفض نسبة العجز. مصرف لبنان حافظ على احتياطاته المالية وهو فقد جزءاً منها بسبب تدخله لحماية العملة اللبنانية ولتمويل الدولة، حتى أن الهندسات المالية ساعدت الدولة على تجاوز مشكلات مالية كثيرة.

الامر المهم في الازمة الحالية أن لبنان يحتاج سريعاً إلى تنفيذ سياسات إصلاحية محدّدة لاحتواء الأزمة النقدية، تبدأ ببرنامج حكومي قادر على تهدئة الناس وإقرار موازنة تهدف إلى خفض العجز تدريجاً حتى تحقيق التوازن عام 2022 ثم العمل في شكل متدرج إلى خفض كلفة أسعار الفائدة المرتفعة، وإصلاح القطاع العام. لكن العمل يجب أن يتركز على النموّ الاقتصادي ومعالجة مشكلة الدين العام وإعادة الثقة الدولية والحصول على مساعدات انطلاقاً من اصلاحات جدية، والاعتراف بالفشل الذي منيت به سياسات الحكومات الاقتصادية. لكن في الوضع الراهن يبدو لبنان يعيش مرحلة دقيقة، إذ أن وكالات التصنيف الدولية تستمر في خفض تصنيفه وخفض تصنيف المصارف اللبنانية أيضاً، وهذا يطرح الكثير من التحديات أمام السلطة المقبلة لتجاوز الازمة، حتى أن الغالبية تجمع على أن لبنان لن يستطيع النهوض من حالة الانهيار التي يعيشها على كل المستويات والتي يمكن اذا استمرت على هذا النحو أن تأخذ البلاد إلى الفوضى، إلا من خلال مساعدات مالية فورية من الخارج، أو على الاقل تأمين أموال يستطيع من خلالها إعادة ضخ الاموال في السوق، طالما أن المصارف أعلنت من خلال اجراءاتها أنها تعاني شحاً في ملاءتها، وهذا ينسحب على طريقة تعاملها مع أموال المودعين.

السؤال، هل يستطيع مصرف لبنان الاستمرار في مواجهة الضغط على الليرة خلال المرحلة المقبلة؟ أم أنه سيواجه الكثير من الاخطار في ظل انعدام الأفق والمسادة، وهو الذي يبذل الكثير من الجهود لتجنيب الدولة الإفلاس… فالثقة بالمصرف المركزي وحاكمه كبيرة ولا بد من انتظار نقلة نوعية للعبور الى التعافي والاستقرار…

 

مجلة البنك والمستثمر

العدد228