الحراك المطلبي بلا توظيف سياسي

الاحتجاجات التي شهدها لبنان أو الانتفاضة أو ما يقال من البعض أنها ثورة، انطلقت من أسباب معيشية وحياتية ولمواجهة الفساد ولاستعادة الاموال المنهوبة، إذ وصل اللبنانيون إلى مرحلة لم يعد في إمكانهم تحمل تبعات الأزمات المالية والاقتصادية وغياب فرص العمل وانعدام الخدمات من الكهرباء الى المياه وغيرها، إضافة إلى ما يفرض عليهم من ضرائب، أي أن الحكومة كانت تعمل لتحميلهم أعباء الأزمات التي تتحمل هي مع الحكومات السابقة المسؤولية عنها.
كانت الأزمة المالية وصلت إلى نفطة دقيقة، إذ لم تستطع الحكومة عندما كانت تناقش مشروع موازنة 2020 تخفيض العجز الى أقل من 7 %، وتحدثت عن ضرائب قاسية ضد اللبنانيين. وحين اشتعلت الاحتجاجات والانتفاضة فاجأت الحكومة التي استقال رئيسها سعد الحريري لاحقا ان أقرت موازنة 2020 بلا ضرائب وبنسبة عجز 0.6 %، فإما كانت تخدع اللبنانيين وإما كانت تحاول امتصاص الأزمة ونزول المتظاهرين الى الشارع، فإذا بالأمور تتجه نحو مزيد من التصعيد لتتكشف الأمور عن المأزق الذي يعيشه البلد على كل المستويات. المهم أن ما حصل في الشارع ولا يزال يطرح تحديات كبرى على الانتفاضة أو الحراك. فأقصر الطرق لزرع الشقاق في بنية الحراك وتفكيكه هو سحبه إلى مجادلة السلطة والسير في منطقها، باختيار الحقائب بين الطوائف، وهو ما يطرح اسئلة عما سيكونه في المرحلة المقبلة وبرنامج عمله الشفاف وتوجهاته، وإن كانت متنوعة وتضم فئات مختلفة. فأن تتشكل الحكومة لا يمكن غض النظر عما ستتخذه من إجراءات وقرارات آيلة للتطبيق إصلاحياً ومؤسساتياً، ما يفرض على الانتفاضة أن تدلي بدلوها في هذا الشأن وأن تضغط لتصويب المسار والتركيز على مطالب مقبولة شعبياً أي أن تكون أكثر قرباً من الناس لتشكيل حصانة لها وشرعية قادرة على فرض برنامجها. أما النقطة الأبرز والأخطر، فتكمن في كيفية حفاظ الحراك على تماسكه وتحييده عن الصراعات الأهلية وحمايته من الاصطفافات الطائفية.
هناك مخاوف من نجاح محاولات توظيف الحراك وضرب الهوامش المتنوعة والمتعددة التي ظهرت شعبياً، فلا اتفاق على ما هو الأنسب لرفع شعارات في المكان والزمان المحددين، فثمة من لا يزال يريد اسقاط النظام كله ويستعجل الأمر، علماً أن هكذا شعار يحتاج الى تراكم وانجازات واستقطاب كتل شعبية وازنة، وثمة من يطالب بإعطاء فرصة لالتقاط الأنفاس ومعرفة كيف ستسير الامور الحكومية، فيما هناك وجهة نظر تقول باستمرار الساحات متحركة من دون قطع الطرق والضغط بما يتناسب مع كل مرحلة لمنع القضاء على التجربة واستغلال ثغرها، وعدم الإنجرار إلى مواجهات مع السلطة في مراكزها الرئيسية ومقراتها الرسمية. وتصر وجهة النظر هذه على التأكيد أن الاحتجاجات يجب أن تركز على الشأن المطلبي والمعيشي، وتحقيق انجازات قبل أن ترفع شعارات سياسية تتعلق ببنية السلطة وغيرها.