الهروب من جمود الآلة

الهروب من جمود الآلة

بقلم: ستين جاكوبسن*

 

كانت الخسارة التي مُنيت بها هيلاري كلينتون ناقوساً ينذر بالتغيير أكثر من أي صوت ثقة في المخططات السياسية التي دعى إليها دونالد ترامب. الصورة:  iStock

فيما لا يسعني إلا أن أصفه خطأً في المواعيد، وجدت نفسي أشاهد نتائج الانتخابات الأمريكية من فندق راديسون أوكرانيا في وسط موسكو – أحد أكثر الأماكن المفضلة لدي في العاصمة الروسية.

ومع خشيتي من أن أوصف بمؤيد لكل من بوتن وترامب، فقد قررت أن أكتب تحليلي الخاص لما بعد هذه النتيجة التاريخية للانتخابات الأمريكية. ولا بد لي أن أقول، فقط من باب العلم بالشيء، أنني لم أغيّر رأيي الذي كنت عليه مع دنو موعد الانتخابات في 8 نوفمبر…

…المسألة ليست حول فوز ترامب، بل حول خسارة كلينتون.

قد أكون أكثر الناس لا مبالاة بمن فاز وما هي معتقداته، فجُل اهتمامي هو فهم ما حدث. والآن وبعد أن أدليت ببراءة الذمة هذه، ما هو استنتاجي المتواضع بناء على نتيجة الانتخابات الأمريكية الأخيرة؟

 

لم تكن للانتخابات أي صلة بالقضايا المطروحة

على غرار تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، لم يكن الأمر متعلقاً بالشخصيات ولا القضايا المطروحة. فلو كانت “القضايا” تعني أي شيء للناخبين الأمريكيين، لما وصل أي من كلينتون أو ترامب إلى صناديق الاقتراع في نوفمبر.

فمجرد حقيقة تمكن شخص مثل ترامب من قيادة الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية هي أكبر دليل على أن الأمر لا علاقة له بالشخص نفسه ولا بالسياسة، بل بالحاجة التي تولدت لدى الشعب الأمريكي للهروب مما أسماه أحد الخبراء الاستراتيجيين “الآلة السياسية الجامدة”.

وفي حقيقة الأمر، هيلاري ليست قابلة للانتخاب، فقد قادت حملة وصلت تكلفتها مليار دولار أمريكي مصممة لخدمة مختلف المجموعات ذات المصالح الخاصة، سواء كانت متعلقة بعرق أو جنس محدد أو معنية بنواحي سياسية محددة للغاية.

وعلى النقيض من ذلك، فقد تألفت حملة ترامب بشكل رئيسي من حسابه على ’تويتر‘ (ومتابعيه الكُثر)! نعم، حسابه على ’تويتر‘ (لأغراض براءة الذمة، فأنا شخصياً أملك الكثير من المتابعية على ’تويتر‘).

وعليه، فإن النتيجة الأولى تبعث على الكثير من التفاؤل وهي أن إنفاق المزيد من الأموال لا يشتري لك المزيد من الأصوات، كما أنه لا يشتري لك المصداقية.

 

الإعلام والرسالة

يبدو أن ترامب، وبالرغم من شخصيته المستفزة في معظم الأحيان، تمكن من تحويل نفسه إلى مرشح يؤمن بالولايات المتحدة ككل وليس بمجموعات معينة. وقد نشرت عدة صحف، منها نيويورك تايمز، صفحات وصفحات من الحقائق التي توضح كيف أن ترامب استهان بكل ما هو متعارف عليه على أنه مقبول سياسياً بل وتجاهله تماماً ومع ذلك استمر في تصدّر استطلاعات الرأي.

وإذا لم يحمل ذلك كلاً من الإعلامين والاستراتيجيين السياسيين على إعادة النظر، فما الذي يمكن أن يحملهم عليه إذاً؟

فهل تكون النتيجة الإيجابية إذاً أن “الطريق نحو الرئاسة” في المستقبل يتعلق أكثر بالرغبة، سواء المصرح عنها أو الضمنية، في أن تكون رئيساً لأمريكا برمتها؟ أن تكون شخصاً حقيقياً عوضاً عن كونك منتجاً وافقت عليه مجموعات التركيز؟

هل يتطلب الأمر التركيز على ما يجعل أمريكا قوية والتغاضي عن حاجات ومظالم مجموعات فرعية معينة؟

إذا كان الأمر كذلك، فالظاهر أن السياسات الأمريكية جاهزة كي تنهض من أنقاض الدمار. وإذا كان الأمر كذلك بدوره، فهذا يعني أن على الأمريكيين أن يكونوا أمريكيين أولاً ثم أعضاء في أي مجموعة أقلية ثانياً، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك خلال العقود الماضية.

 

تساوي الفرص

إن تساوي فرص الحصول على التعليم والوظائف والرعاية الصحية لا يحدد نجاح الولايات المتحدة فحسب، بل دول العالم قاطبة.

وهناك مغالطة كبيرة بأن الجميع بحاجة إلى “امتلاك نفس الأشياء”…لا، نحن لا نحتاج لذلك! ما نحن بحاجة إليه هو تساوي فرص الحصول على الأشياء. ومن الواضح أن الولايات المتحدة متأخرة في هذا المجال، ويعود ذلك في نظري إلى أن الآلة السياسية الجامدة مشغولة بتقديم وتبادل الخدمات بدلاً من التركيز على الأمور الأهم: عدم تساوي فرص الحصول على الوظائف والتعليم والمستقبل.

وأقوم بإلقاء مئات من الخطب كل عام عن الاقتصاد الكلي والسياسة، وهناك نقطة واحدة أحب دائماً الإشارة إليها وهي: الاقتصاد أمر بسيط للغاية على الرغم من محاولاتنا نحن الاقتصاديين لجعله يبدو أكثر تعقيداً، إذ يأتي كل من النمو والازدهار من قناتين رئيسيتين: التوزيع السكاني (النمو أكثر من الازدهار في هذه الحالة) والإنتاجية.

ويعدّ امتلاك القدرة على تحسين الإنتاجية الوسيلة الفعلية الوحيدة للخروج من بيئة النمو المنخفض الحالية بعد أن تم استهلاك السياسات النقدية والمالية. وجمال هذه الحقيقة يكمن في أن الوسيلة الوحيدة لدفع الإنتاجية هي رفع مستوى ذكاء الأفراد.

وهناك رابط يزيد عن 80% ما بين معدل الذكاء (بمعنى: متوسط مستوى التعليم) والإنتاجية. وأكثر الدول ثراء في العالم تتألف ببساطة من سكان أفضل تعليماً وهي بالتالي أكثر إنتاجية.

وعليه، فإن النتيجة ببساطة هي الاستثمار في التعليم والأبحاث والأفراد! فلنفكر قليلاً في هذا الأمر…هذا هو العكس تماماً لما يجري في ساحتنا السياسية الجامدة حالياً.

والجزء الثاني من هذا كله هو أكثر إثارة للاهتمام. فكما قال المؤسس الشريك لشركة ’باي بال‘ بيتر ثييل في كتابه الكلاسيكي “من الصفر إلى الواحد”:

“على المستوى الكلي، فإن الكلمة التي يمكن التعبير بها عن التقدم الأفقي هي العولمة – بمعنى أخذ الأشياء التي أثبتت نجاحها في مكان ما وجعلها تنجح في كل مكان حول العالم. وتعتبر الصين مثالاً نموذجياً للعولمة؛ فخطتها على مدى العشرين عاماً المقبلة هي أن تصبح كما هي الولايات المتحدة عليه اليوم. وكان الصينيون واضحين في تقليد كل ما أثبت نجاحه في العالم المتقدم: السكك الحديدية في القرن التاسع عشر ومكيفات الهواء في القرن العشرين وحتى مدن بأكملها. وقد يتجاوزون بعض الخطوات في الطريق – فينتقلون إلى الاتصالات اللاسلكية مباشرة بدلاً من مد الخطوط الأرضية مثلاً – ولكنهم يقلدون بالتأكيد.

أما الكلمة التي يمكن التعبير بها عن التقدم العمودي من الصفر إلى الواحد فهي التكنولوجيا. فقد أدى التقدم السريع في تقنية المعلومات خلال العقود الأخيرة إلى جعل وادي السليكون عاصمة التكنولوجيا بشكل عام. إلا أنه ما من سبب يدعو إلى حصر التكنولوجيا في أجهزة الحاسوب فقط. فأي طريقة جديدة ومحسنة لتنفيذ الأمور هي بحد ذاتها تكنولوجيا”.

 

التوجه العمودي

هذا هو المستوى التالي. فقد كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب النقيضان التوأمان للعولمة والتجارة وإشارة إلى احتجاج جيل “جدار برلين” 1989 الذي اعترض على امتداد التقدم “الأفقي” لأنه لا يملك البعد العمودي الممثل في التكنولوجيا.

وبغض النظر عن المحور التقني، فقد عانى كل من التعليم والذكاء والنمو بالطبع. وتركز السياسات الشاملة اليوم على العولمة كهدف بحد ذاتها وهذا خطأ، إذا أنها تتجاهل التكنولوجيا، أو كما قلت، الإنتاجية. ومن المنظور الشامل، فإن الطريق للمضي قدماً بسيط– نحن بحاجة إلى إيجاد فرص متساوية للجميع كحق دستوري والتركيز على متوسط مستويات التعليم والجمع ما بين النواحي الإيجابية في العولمة وبين المحور العمودي الرئيسي وهو التكنولوجيا.

وهذا هو السبيل الوحيد لتمكين المزيد من الأشخاص من الحصول على النمو بأسعار أقل وإنتاجية أعلى. وتعتبر إنتاجية الصين اليوم أقل بنسبة 20% من إنتاجية الولايات المتحدة. وهذا يعني أن السبيل الوحيد الذي يمكن لبكين من خلاله تفادي دوامة من الديون هو إطلاق الإنتاجية، وهو ما نراه من افتتاح الحساب الخارجي للصين مؤخراً ودخولها سلة عملات حقوق السحب الخاصة (SDR) وسماحها للأجانب بالدخول إلى ما كان يعرف في السابق بالمؤسسات المالية “الصينية الحمراء”.

وعلى نحو مماثل، يمكن لاقتصادات أفريقيا تانسية دخول الساحة من خلال التعليم، الذي يمكن أن يأتي من خلال شبكة الهاتف المتنقل القائمة وهي أكثر شيوعاً في أفريقيا جنوب الصحراء من الحسابات المصرفية!

وسيحل كل من الابتكار والتكنولوجيا مشاكل تخزين الكهرباء كما سيعملان على تحسين فهمنا للكون بشكل عام وسيؤديان إلى إحداث تغييرات جوهرية أخرى من النوعين البراغماتي والنظري. ولن يحدث هذا فقط لأننا قمنا بتصميمه ولا لأننا نرغب في أن يحدث… بل سيحدث لأننا بحاجة له، فالتغيير لا يأتي إلا إذا كانت هناك حاجة حقيقية له.

 

عقبة في الطريق

تشكل نتيجة الانتخابات الأمريكية الخطوة الأولى في الانسلاخ من آلية سياسية معطلة وجامدة، ولكن التركيز على الإنتاجية المصحوبة بالاستثمار في الأفراد لن يحدثا إلا إذا كانت هناك أزمة.

ويعتقد ترامب وأنصاره أن نهجه، نهج رجال الأعمال، يمكن أن يغيّر اتجاه التنمية في الولايات المتحدة ولكن هذا لن يحدث. إلا أن الميزة الوحيدة التي تمخضت عنها هذه الانتخابات هي التخلص من النموذج القديم الجامد وليس أي من الأفكار السياسية التي جاء بها ترامب.

ومع ذلك، لا زال الركود يلوح في أفق الولايات المتحدة بالرغم من التوقعات بوفرة مالية. فالعوائد الأعلى (التي كانت النتيجة الفعلية لانتخاب ترامب) ستقضي على ما سيتبقى من التنمية في الولايات المتحدة لأن الاقتصاد الأمريكي لن يكون وحده من يعمل بدون أي دعم، بل ستكون معه العديد من الشركات الأمريكية.

أما بالنسبة لتحليلي لما بعد الانتخابات، فدعوني أشير إلى أن مجرد قراءة معتدلة لهذه النتيجة وما تمخض عنها من ظواهر ثقافية وسياسية ثانوية يجب ولا بد من أن تُشعر الإعلام السائد برمته بكثير من الخجل.

لقد شاهدت تغطية الانتخابات على قناة CNN – أو “قناة أخبار كلينتون” كما يجب أن تتم تسميتها في المستقبل – وكانت مشينة للغاية! لقد جعلت محطة “روسيا اليوم” القائمة في موسكو والمخصصة للدعاية الحكومية تبدو وكأنها مؤسسة إعلامية معتدلة، وهي مقارنة مسيئة للغاية بالنسبة للصحف والشبكات الإعلامية الأمريكية المحترمة.

وربما يكون الوقت قد حان كي يلتفت الجميع عن الصحف والمذيعين، والعودة إلى واحدة من أجمل ما كُتب من وثائق ألا وهو الدستور الأمريكي. ربما يكون الوقت قد حان كي يستمع الأمريكيون إلى كلمات فرانسيس سكوت كي، الذي كتب كلمات النشيد الوطني الأمريكي المؤثر وأن يقوموا فعلاً بجعل الولايات المتحدة “أرض الأحرار ووطن الشجعان”.

 

 

مجلة البنك والمستثمر
العدد 192
كانون الاول 2016